الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
وأن يكون الأصل الحكيم منزله أو قائله فحذف المضاف إلى الضمير المجرور وأقيم المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعًا ثم استكن في الصفة المشبهة. وأن يكون {الحكيم} فعيلًا عنى مفعل كما قالوا: عقدت العسل فهو عقيد أي معقد وهذا قليل، وقيل: هو عنى حاكم، وتمام الكلام في هذه الآية قد تقدم في الكلام على نظيرها.
فقد حكي عن الأصمعي أنه سئل عن الألمعي فأنشده ولم يزد عليه، وهذا ظاهر على تقدير أن يراد بالحسنات مشاهيرها المعهودة في الدين، وأما على تقدير أن يراد بها جميع ما يحسن من الأعمال فلا يظهر إلا باعتبار جعل المذكورات نزلة الجميع من باب كل الصيد في جوف الفرا، وقيل: إذا أريد بالحسنات المذكورات يكون الموصول صفة كاشفة وقوله تعالى:
أراد به جميلًا الجمحي وكان خاصًا به فلما استأذنت عليه قال لي: أسمعت ما قلت؟ قلت: نعم قال: أنا إذا خلونا قلنا ما يقول الناس في بيوتهم. وحرم جماعة السماع مطلقًا، وقال الغزالي: السماع إما محبوب بأن غلب على السامع حب الله تعالى ولقائه ليستخرج به أحوالًا من المكاشفات والملاطفات، وإما مباح بأن كان عنده عشق مباح لحليلته أو لم يغلب عليه حب الله تعالى ولا الهوى، وإما محرم بأن غلب عليه هوى محرم.وسئل العز بن عبد السلام عن استماع الإنشاد في المحبة والرقص فقال: الرقص بدعة لا يتعاطاه إلا ناقص العقل فلا يصلح إلا للنساء، وأما استماع الإنشاد المحرك للأحوال السنية وذكر أمور الآخرة فلا بأس به بل يندب عند الفتور وسآمة القلب، ولا يحضر السماع من في قلبه هوى خبيث فإنه يحرك ما في القلب، وقال أيضًا: السماع يختلف باختلاف السامعين والمسموع منهم، وهم إما عارفون بالله تعالى ويختلف سماعهم باختلاف أحوالهم فمن غلب عليه الخوف أثر فيه السماع عند ذكر المخوفات نحو حزن وبكاء وتغير لون، وهو إما خوف عقاب أو فوات ثواب أو أنس وقرب وهو أفضل الخائفين والسامعين وتأثير القرآن فيه أشد، ومن غلب عليه الرجاء أثر فيه السماع عند ذكر المطمعات والمرجيات، فإن كان رجاؤه للإنس والقرب كان سماعه أفضل سماع الراجين وإن كان رجاؤه للثواب فهذا في المرتبة الثانية، وتأثير السماع في الأول أشد من تأثيره في الثاني، ومن غلب عليه حب الله تعالى لإنعامه فيؤثر فيه سماع الإنعام والإكرام، أو لجماله سبحانه المطلق فيؤثر فيه ذكر شرف الذات وكمال الصفات، وهو أفضل مما قبله لأن سبب حبه أفضل الأسباب، ويشتد التأثير فيه عند ذكر الإقصاء والإبعاد، ومن غلب عليه التعظيم والإجلال وهو أفضل من جميع ما قبله، وتختلف أحوال هؤلاء في المسموع منه، فالسماع من الولي أشد تأثيرًا من السماع من عامي ومن نبي أشد تأثيرًا منه ومن ولي، ومن الرب عز وجل أشد تأثيرًا من السماع من نبي لأن كلام المهيب أشد تأثيرًا في الهائب من كلام غيره كما أن كلام الحبيب أشد تأثيرًا في المحب من كلام غيره، ولهذا لم يشتغل النبيون والصديقون وأصحابهم بسماع الملاهي والغناء واقتصروا على كلام ربهم جل شأنه، ومن يغلب عليه هوى مباح كمن يعشق حليلته فهو يؤثر فيه آثار الشوق وخوف الفراق ورجاء التلاق فسماعه لا بأس به، ومن يغلب عليه هوى محرم كعشق أمرد أو أجنبية فهو يؤثر فيه السعي إلى الحرام وما أدى إلى الحرام فهو حرام، وأما من لم يجد في نفسه شيئًا من هذه الأقسام الستة فيكره سماعه من جهة أن الغالب على العامة إنما هي الأهواء الفاسدة فرا هيجه السماع إلى صورة محرمة فيتعلق بها ويميل إليها، ولا يحرم عليه ذلك لأنا لا نتحقق السبب المحرم، وقد يحضر السماع قوم من الفجرة فيبكون وينزعجون لأغراض خبيثة انطووا عليها ويراؤن الحاضرين بأن سماعهم لشيء محبوب، وهؤلاء قد جمعوا بين المعصية وبين إيهام كونهم من الصالحين، وقد يحضر السماع قوم قد فقدوا أهاليهم ومن يعز عليهم ويذكرهم المنشد فراق الأحبة وعدم الإنس فيبكي أحدهم ويوم الحاضرين أن بكاءه لأجل رب العالمين جل وعلا وهذا مراء بأمر غير محرم، ثم قال: اعلم أنه لا يحصل السماع المحمود إلا عند ذكر الصفات الموجبة للأحوال السنية والأفعال الرضية، ولكل صفة من الصفات حال مختص بها، فمن ذكر صفة الرحمة أو ذكر بها كانت حاله حال الراجين وسمعه سماعهم، ومن ذكر شدة النقمة أو ذكر بها كانت حاله حال الخائفين وسماعه سماعهم، وعلى هذا القياس، وقد تغلب الأحوال على بعضهم بحيث لا يصغي إلى ما يقوله المنشد ولا يلتفت إليه لغلبة حاله الأولى عليه انتهى، وقد نقله بعض الأجلة وأقره وفيه ما يخالف ما نقل عن الغزالي.ونقل القاضي حسين عن الجنيد قدس سره أنه قال: الناس في السماع إما عوام وهو حرام عليهم لبقاء نفوسهم، وإما زهاد وهو مباح لهم لحصول مجاهدتهم، وإما عارفون وهو مستحب لهم لحياة قلوبهم، وذكر نحوه أبو طالب المكي وصححه السهروردي عليه الرحمة في عوارفه، والظاهر أن الجنيد أراد بالحرام معناه الاصطلاحي.واستظهر بعضهم أنه لم يرد ذلك وإنما أراد أنه لا ينبغي. ونقل بعضهم عن الجنيد قدس سره أنه سئل عن السماع فقال: هو ضلال للمبتدئ والمنتهي لا يحتاج إليه، وفيه مخالفة لما سمعت.وقال القشيري رحمه الله تعالى: إن للسماع شرائط منها معرفة الأسماء والصفات ليعلم صفات الذات من صفات الأفعال وما يمتنع في نعت الحق سبحانه وما يجوز وصفه تعالى به وما يجب وما يصح إطلاقه عليه عز شأنه من الأسماء وما يمتنع، ثم قال: فهذه شرائط صحة السماع على لسان أهل التحصيل من ذوي العقول، وأما عند أهل الحقائق فالشرط فناء النفس بصدق المجاهدة ثم حياة القلب بروح المشاهدة فمن لم تتقدم بالصحة معاملته ولم تحصل بالصدق منازلته فسماعه ضياع وتواجده طباع، والسماع فتنة يدعو إليها استيلاء العشق إلا عند سقوط الشهوة وحصول الصفوة، وأطال بما يطول ذكره، قيل: وبه يتبين تحريم السماع على أكثر متصوفة الزمان لفقد شروط القيام بأدائه. ومن العجب أنهم ينسبون السماع والتواجد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويروون عن عطية أنه عليه الصلاة والسلام دخل على أصحاب الصفة يومًا فجلس بينهم، وقال عليه الصلاة والتحية: هل فيكم من ينشدنا أبياتًا؟ فقال واحد: فقام عليه الصلاة والسلام وتمايل حتى سقط الرداء الشريف عن منكبيه فأخذه أصحاب الصفة فقسموه فيما بينهم بأربعمائة قطعة، وهو لعمري كذب صريح وإفك قبيح لا أصل له بإجماع محدثي أهل السنة وما أراه إلا من وضع الزنادقة، فهذا القرآن العظيم يتلوه جبريل عليه السلام عليه صلى الله عليه وسلم ويتلوه هو أيضًا ويسمعه من غير واحد ولا يعتريه عليه الصلاة والسلام شيء مما ذكروه في سماع بيتين هما كما سمعت سبحانك هذا بهتان عظيم، وأنا أقول: قد عمت البلوى بالغناء والسماع في سائر البلاد والبقاع ولا يتحاشى من ذلك في المساجد وغيرها بل قد عين مغنون يغنون على المنائر في أوقات مخصوصة شريفة بأشعار مشتملة على وصف الخمر والحانات وسائر ما يعد من المحظورات، ومع ذلك قد وظف لهم من غلة الوقف ما وظف ويسمونهم الممجدين، ويعدون خلو الجوامع من ذلك من قلة الاكتراث بالدين، وأشنع من ذلك ما يفعله أبالسة المتصوفة ومردتهم ثم أنهم قبحهم الله تعالى إذا اعترض عليهم بما اشتمل عليه نشيدهم من الباطل يقولون: نعني بالخمر المحبة الالهية وبالسكر غلبتها وية. وليلى. وسعدى مثلا المحبوب الأعظم وهو الله عز وجل، وفي ذلك من سوء الأدب ما فيه {وَللَّهِ الاسماء الحسنى فادعوه بِهَا وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَئِهِ} [الأعراف: 180] وفي القواعد الكبرى للعز بن عبد السلام ليس من أدب السماع أن يشبه غلبة المحبة بالسكر من الخمر فإنه سوء الأدب وكذا تشبيه المحبة بالخمر لأن الخمر أم الخبائث فلا شبه ما أحبه الله تعالى بما أبغضه وقضى بخبثه ونجاسته فإن تشبيه النفيس بالخسيس سوء الأدب بلا شك فيه، وكذا التشبيه بالخصر والردف ونحو ذلك من التشبيهات المستقبحات، ولقد كره لبعضهم قوله: فأنت السمع والبصر لأنه شبه من لا شبيه له بروحه الخسيسة وسمعه وبصره اللذين لا قدر لهما، ثم إنه وإن أباح بعض أقسام السماع حط على من يرقص ويصفق عنده فقال: أما الرقص والتصفيق فخفة ورعونة مشبهة برعونة الإناث لا يفعلها إلا أر عن أو متصنع كذاب، وكيف يتأتى الرقص المتزن بأوزان العناء ممن طاش لبه وذهب قلبه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم» ولم يكن أحد من هؤلاء الذين يقتدي بهم يفعل شيئًا من ذلك، وإنما استحوذ الشيطان على قوم يظنون أن طربهم عند السماع إنما هو متعلق بالله تعالى شأنه ولقد مانوا فيما قالوا وكذبوا فيما ادعوا من جهة أنهم عند سماع المطربات وجدوا لذتين. احداهما لذة قليل من الأحوال المتعلقة بذي الجلال.والثانية لذة الأصوات والنغمات والكلمات الموزونات الموجبات للذات ليست من آثار الدين ولا متعلقة بأموره فلما عظمت عندهم اللذات غلطوا فظنوا أن مجموع ما حصل لهم إنما حصل بسبب حصول ذلك القليل من الأحوال وليس كذلك بل الأغلب عليهم حصول لذات النفوس التي ليست من الدين في شيء. وقد حرم بعض العلماء التصفيق لقوله عليه الصلاة والسلام: «إنما التصفيق للنساء» ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء، ومن هاب الإله وأدرك شيئًا من تعظيمه لم يتصور منه رقص ولا تصفيق ولا يصدران إلا من جاهل، ويدل على جهالة فاعلهما أن الشريعة لم ترد بهما في كتاب ولا سنة ولم يفعل ذلك أحد من الأنبياء ولا معتبر من أتباعهم وإنما يفعل ذلك الجهلة السفهاء الذين التبست عليهم الحقالئق بالأهواء؛ وقد قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا لّكُلّ شَيْء} [النحل: 89] ولقد مضى السلف وأفاضل الخلف ولم يلابسوا شيئًا من ذلك فما ذاك إلا غرض من أغراض النفس وليس بقربة إلى الرب جل وعلا، وفاعله إن كان ممن يقتدي به ويعتقد أنه ما فعله إلا لكونه قربة فبئس ما صنع لا يهامه أن هذا من الطاعات وإنما هو من أقبح الرعونات. وأما الصياح والتغاشي ونحوهما فتصنع ورياء، فإن كان ذلك عن حال لا يقتضيهما فاثم الفاعل من جهتين. احداهما إيهامه الحال الثابتة الموجبة لهما. والثانية تصنعه ورياؤه، وإن كان عن مقتض أثم اثم رياء لا غير. وكذلك نتف الشعور وضرب الصدور وتمزيق الثياب محرم لما فيه من إضاعة المال، وأي ثمرة لضرب الصدور ونتف الشعور وشق الجيوب إلا رعونات صادرة عن النفوس اه كلامه، ومنه يعلم ما في نقل الأسنوي عنه رحمه الله تعالى أنه كان يرقص في السماع، والعلامة ابن حجر قال: يحمل ذلك على مجرد القيام والتحرك لغلبة وجد وشهود وتجل لا يعرفه إلا أهله، ومن ثم قال الإمام إسماعيل الحضرمي: موقف الشمس عن قوم يتحركون في السماع هؤلاء قوم يروحون قلوبهم بالأصوات الحسنة حتى يصيروا روحانيين فهم بالقلوب مع الحق وبالأجساد مع الخلق، ومع هذا فلا يؤمن عليهم العدو ولا يعول عليهم فيما فعلوا ولا يقتدي بهم فيما قالوا اه، وما ذكره فيمن يصدر عنه نحو الصياح والتغاشي عن حال يقتضيه لا يخلو عن شيء، فقد قال البلقيني فيما يصدر عنهم من الرقص الذي هو عند جمع ليس حرم ولا مكروه لأنه مجرد حركات على استقامة أو اعوجاج ولأنه عليه الصلاة والسلام، أقر الحبشة عليه في مسجده يوم عيد، وعند آخرين مكروه، وعند هذا القائل حرام إذا كثر بحيث أسقط المروءة إن كان باختيارهم فهم كغيرهم وإلا فليسوا كلفين، واستوضحه بعض الأجلة وقال: يجب اطراده في سائر ما يحكى عن الصوفية مما يخالف ظواهر الشرع فلا يحتج به لأنه ان صدر عنهم في حال تكليفهم فهم كغيرهم أو مع غيبتهم لم يكونوا مكلفين به، والذي يظهر لي أن غناء الرجل ثل هذه الألحان إن كان لدفع الوحشة عن نفسه فمباح غير مكروه كما ذهب إليه شمس الأئمة السرخسي لكن بشرط أن لا يسمعه من يخشى عليه الفتنة من امرأة أو غيرها ولا من يستخف به ويسترذله وبشرط أن لا يغير اسم معظم بنحو زيادة ليست فيه في أصل وضعه لأجل أن لا يخرج عن مقتضى الصنعة مثل أن يقول في الله ايلاه وفي محمد مو حامد، هذا مع كون ما يتغنى به مما لا بأس بإنشاده وإن كان للناس للهو في غير حادث سرور كعرس بأجرة أو بدونها ازدرى به لذلك أو لم يزدر كان ما يتغنى به مباح الإنشاد أو لم يكن فحرام وإن أمنت الفتنة وأراه من الصغائر كما يقتضيه كلام الماوردي حيث قال: وإذا قلنا بتحريم الأغاني والملاهي فهي من الصغائر دون الكبائر، وإن كان في حادث سرور فهو مباح إن أمنت الفتنة وكان ما يتغنى به جائز الإنشاد ولم يغير فيه اسم معظم ولم يكن سببًا للازدراء به وهتك مروءته ولا لاحتماع الرجال والنساء على وجه محظور، وإن كان سببًا لمحرم فهو حرام وتتفاوت مراتب حرمته حسب تفاوت حرمة ما كان هو سببًا له وإن كان للناس لا للهو بل لتنشيطهم على ذكر الله تعالى كما يفعل في بعض حلق التهليل في بلادنا فمحتمل الإباحة إن لم يتضمن مفسدة ولعله إلى الكراهة أقرب.ورا يقال: إنه حينئذ قربة كالحداء وهو ما يقال خلف الإبل من زجر وغيره إذا كان منشطًا لسير هو قربة لأن وسيلة القربة قربة اتفاقًا فيقال: لم نقف على خبر في اشتمال حلق الذكر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا على عهد خلفائه وأصحابه رضي الله تعالى عنهم وهم أحرص الناس على القرب على هذا الغناء ولا على سائر أنواعه وصحت أحاديث في الحداء ولذا أطلق جمع القول بندبه وكونهم نشطين بدون ذلك لا يمنع أن يكون فيهم من يزيده ذلك نشاطًا فلو كان لذلك قربة لفعلوه ولو مرة ولم ينقل أنهم فعلوه أصلًا، على أنه لا يبعدأن يقال: إنه يشوش على الذاكرين ولا يتم لهم معه تدبر معنى الذكر وتصوره وهو بدون ذلك لا ثواب فيه بالإجماع، ولعل ما يفعل على المنائر مما يسمونه تمجيدًا منتظم عند الجهلة في سلك وسائل القرب بل يعده أكثرهم قربة من حيث ذاته وهو لعمري عند العالم عزل عن ذلك، وإن كان لحاجة مرض تعين شفاؤه به فلا شك في جوازه والاكباب على المباح منه يخرم المروءة كاتخاذه حرفة، وقول الرافعي: لا يخرمها إذا لاق به رده الزركشي بأن الشافعي نص على رد شهادته وجرى عليه أصحابه ونها حرفة دنية ويعد فاعلها في العرف ممن لا حياء له، وعن الحسن أن رجلًا قال له: ما تقول في الغناء؟ قال: نعم الشيء الغناء يوصل به الرحم وينفس به عن المكروب ويفعل فيه المعروف قال: إنما أعني الشد، قال: وما الشد أتعرف منه شيئًا؟ قال: نعم قال: فما هو؟ فاندفع الرجل يغني ويلوي شدقيه ومنخريه ويكسر عينيه فقال الحسن: ما كنت أرى أن عاقلًا يبلغ من نفسه ما أرى، واختلفوا في تعاطي خارم المروءة على أوجه.ثالثها إن تعلقت به شهادة حرم وإلا فلا.قال بعض الأجلة: وهو الأوجه لأنه يحرم عليه التسبب في إسقاط ما تحمله وصار أمانة عنده لغيره ويظهر لي أنه إن كان ذلك من عالم يفتدي به أو كان ذلك سببًا للازدراء حرم أيضًا وإن سماعه أي استماعه لا مجرد سماعه بلا قصد عند أمن الفتنة وكون ما يتغني به جائز الإنشاد وعدم تسببه لمعصية كاستدامة مغن لغناء آثم به مباح والأكباب عليه كما قال النووي: بسقط المروءة كالأكباب على الغناء المباح، والاختلاف في تعاطي مسقطها قد ذكرناه آنفًا وأما سماعه عند عدم أمن الفتنة وكون ما يتغنى به غير جائز الإنشاد وكونه متسببًا لمعصية فحرام، وتتفاوت مراتب حرمته ولعلها تصل إلى حرمة كبيرة، ومن السماع المحرم سماع متصوفة زماننا وإن خلا عن رقص فإن مفاسده أكثر من أن تحصى وكثير مما يسمعونه من الأشعار من أشنع ما يتلى ومع هذا يعتقدونه قربة ويزعمون أن أكثرهم رغبة فيه أشدهم رغبة أو رهبة قاتلهم الله تعالى أني يؤفكون.ولا يخفى على من أحاط خبرًا بما تقدم عن القشيري وغيره أن سماعهم مذموم عند من يعتقدون انتصاره لهم ويحسبون أنهم واياه من حزب واحد فويل ان شفعاؤه خصماؤه وأحباؤه أعداؤه، وأما رقصهم عليه فقد زادوا به في الطنبوررنة وضموا كسر الله تعالى شوكتهم بذلك إلى السفه جنة، وقد أفاد بعض الأجلة أنه لا تقبل شهادة الصوفية الذين يرقصون على الدف الذي قيل يباح أو يسن ضربه لعرس وختان وغيرهما من كل سرور، ومنه قدوم عالم ينفع المسلمين رادًا على من زعم القبول فقال: وعن بعضهم تقبل شهادة الصوفية الذين يرقصون على الدف لاعتقادهم إن ذلك قربة كما تقبل شهادة حنفي شرب النبيذ لاعتقاده إباحته وكذا كل من فعل ما اعتقد إباحته اه، ورد بأن خطأ قبيح لأن اعتقاد الحنفي نشأ عن تقليد صحيح ولا كذلك غيره وإنما منشؤه الجهل والتقصير فكان خيالًا باطلًا لا يلتفت إليه اه.ثم إني أقول: لا يبعد أن يكون صاحب حال يحركه السماع ويثير منه ما يلجئه إلى الرقص أو التصفيق أو الصعق والصياح وتمزيق الثياب أو نحو ذلك مما هو مكروه أو حرام فالذي يظهر لي في ذلك أنه إن علم من نفسه صدور ما ذكر كان حكم الاستماع في حقه حكم ما يترتب عليه، وإن تردد فيه فالأحوط في حقه إن لم نقل بالكراهة عدم الاستماع، ففي الخبر «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ثم إن ما حصل له شيء من ذلك جرد السماع من غير قصد ولم يقدر على دفعه أصلًا فلا لوم ولا عتاب فيه عليه، وحكمه في ذلك حكم من اعتراه نحو عطاس وسعال قهريين ولا يشترط في دفع اللوم والعتاب عنه كون ذلك مع غيبته فلا يجب على من صدر منه ذلك إن لم يغب إعادة الوضوء للصلاة مثلا، ولينظر فيما لو اعتراه وهو في الصلاة بدون غيبة هل حكمه حكم نحو العطاس والسعال إذا اعتراه فيها أم لا، والذي سمعته عن بعض الكبار الثاني فتدبر. ومن الناس من يعتريه شيء مما ذكر عند سماع القرآن اما مطلقًا أو إذا كان بصوت حسن، وقلما يقع ذلك من سماع القرآن أو غيره لكامل.وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه قيل لها: إن قومًا إذا سمعوا القرآن صعقوا فقالت: القرآن أكرم من ان يسرق منه عقول الرجال ولكنه كما قال الله تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} وكثيرًا ما يكون لضعف تحمل الوارد، وبعض المتصنعين يفعله رياء، وعن ابن سيرين أنه سئل عمن يسمع القرآن فيصعق فقال: ميعاد ما بيننا وبينهم أن يجلسوا على حائط فيقرأ عليهم القرآن من أوله إلى آخره فإن صعقوا فهو كما قالوا، ولا يرد على إباحة الغناء وسماعه في بعض الصور خبر ابن مسعود «الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل» لا لأن الغناء فيه مقصور وأن المراد به غني المال الذي هو ضد الفقر إذ يرد ذلك أن الخبر روي من وجه آخر بزيادة والذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء الزرع، ومقابلة الغناء بالذكر ظاهر في المراد به التغني، على أن الرواية كما قال بعض الحفاظ بالمدبل لأن المراد أن الغناء من شأنه أن يترتب عليه النفاق أي العملي بأن يحرك إلى غدر وخلف وعد وكذب ونحوها ولا يلزم من ذلك اطراد الترتب.ورا يشير إلى ذلك التشبيه في قوله: كما ينبت الماء البقل فإن انبات الماء البقل غير مطرد، ونظير ذلك في الكلام كثير، والقائل بإباحته في بعض الصور إنما يبيحه حيث لا يترتب عليه ذلك.نعم لا شك أن ما هذا شأنه الأحوط بعد كل قيل وقال عدم الرغبة فيه كذا قيل.وقيل: يجوز أن يكون أريد بالنفاق الايماني، ويؤيده مقابلته في بعض الروايات بالإيمان ويكون مساق الخبر للتنفير عن الغناء إذ كان الناس حديثي عهد بجاهلية كان يستعمل فيها الغناء للهو ويجتمع عليه في مجالس الشرب، ووجه انباته للنفاق إذ ذاك أن كثيرًا منهم لقرب عهده بلذة الغناء وما يكون عنده من اللهو والشرب وغيره من أنواع الفسق يتحرك فلبه لما كان عليه ويحن حنين العشار إليه ويكره لذلك الإيمان الذي صده عما هنالك ولا يستطيع لقوة شوكة الإسلام أن يظهر ما أضمر وينبذ الإيمان وراء ظهره ويتقدم إلى ما عنه تأخر فلم يسعه إلا النفاق لما اجتمع عليه مخافة الردة والاشتياق فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك، وأما الآية فإن كان وجه الاستدلال بها تسمية الغناء لهوًا فكم لهو هو حلال وإن كان الوعيد على اشترائه واختياره فلا نسلم أن ذلك على مجرد الاشتراء لجواز أن يكون على الاشتراء ليضل عن سبيل الله تعالى ولا شك أن ذلك من الكبائر ولا نزاع لنا فيه؛ وقال ابن عطية: الذي يترجح أن الآية نزلت في لهو الحديث مضافًا إلى الكفر فلذلك اشتدت ألفاظ الآية بقوله تعالى: {لِيُضِلَّ} إلخ اه.ومما ذكرنا يعلم ما في الاستدلال بها على حرمة الملاهي كالرباب والجنك والسنطير والكمنجة والمزمار وغيرها من الآلات المطربة بناء على ما روي عن ابن عباس. والحسن أنهما فسرا {لَهْوَ الحديث} بها نعم أنه يحرم استعمالها واستماعها لغير ما ذكر فقد صح من طرق خلافًا لما وهم فيه ابن حزم الضال المضل فقد علقه البخاري ووصله الإسماعيلي. وأحمد. وابن ماجه. وأبو نعيم. وأبو داود بأسانيد صحيحة لا مطعن فيها وصححه جماعة أخرون من الأئمة كما قاله بعض الحفاظ أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ليكونن في أمتي قوم يستحلون الخز والخمر والمعازف» وهو صريح في تحريم جميع آلات اللهو المطربة ومما يشبه الصريح في ذلك ما رواه ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الملاهي عن أنس. وأحمد والطبراني عن ابن عباس. وأبي أمامة مرفوعًا «ليكونن في هذه الأمة خسف وقذف ومسخ وذلك إذا شربوا الخمور واتخذوا القينات وضربوا بالمعازف» وهي الملاهي التي سمعتها، ومنها الصنج العجمي وهو صفر يجعل عليها أوتار يضرب بها على ما ذهب إليه غيرو احد خلافًا للماوردي حيث قال: إن الصنج يكره مع الغناء ولا يكره منفردًا لأنه بانفراده غير مطرب؛ ولعله أراد به العربي وهو قطعتان من صفر تضرب أحدهما بالأخرى فإنه بحسب الظاهر هو الذي لا يطرب منفردًا لكن يزيد الغناء طربا، وذكر أنه يستعمله المخنثون في بعض البلاد، ولا يبعد عليه القول بالحرمة، ومنها اليراع وهو الشبابة فإنه مطرب بانفراده بل قال بعض أهل الموسيقى: إنه آلة كاملة جامعة لجميع النغمات إلا يسيرًا، وقد أطنب الإمام الدولقي وهو من أجلة العلماء في دلائل تحريمه؛ ومنها القياس وهو اما أولى أو مساو وقال: العجب كل العجب ممن هو من أهل العلم بزعم أن الشبابة حلال اه ومنه يعلم ما في قول التاج السبكي في توشيحه لم يقر عندي دليل على تحريم اليراع مع كثرة التتبع والذي أراد الحل فإن انضم إليه محرم فلكل منهما حكمه، ثم الأولى عندي لمن ليس من أهل الذوق الأعراض عنه مطلقًا لأن غاية ما فيه حصول لذة نفسانية وهي ليست من المطالب الشرعية وأما أهل الذوف فحالهم مسلم إليهم وهم على حسب ما يجدونه من أنفسهم اه.وحكى عن العز بن عبد السلام، وابن دقيق العيدانهما كانا يسمعان ذلك والظاهر أنه كذب لا أصل له وبذلك جزم بعض الأجلة، ولا يبعد حلها إذا صفر فيها كالأطفال والرعاء على غير القانون المعروف من الأطراب.ومنها العود وهو آلة للهو غير الطنبور وإطلاقه بعضهم عليه وحكاية النجس ابن طاهر عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي أنه كان يسمع العود من جملة كذبه وتهوره كدعواه إجماع الصحابة والتابعين على إباحة الغناء واللهو، ومثله في المجازفة وارتكاب الأباطيل على الجزم ابن حزم لا الدف فيجوز ضربه من رجل وامرأة لا من امرأة فقط خلافًا للحليمي واستماعه لعرس ونكاح وكذا غيرهما من كل سرور في الأصح وبحل ذي الجلاجل منه وهي إما نحو حلق يجعل داخله كدف العرب أو صنوج عراض من صفر تجعل في حروف دائرته كدف العجم جزم جماعة وجرم آخرون بحرمته وبها أقول لأنه كما قال الأذرعي أشد اطرابًا من أكثر الملاهي المتفق على تحريمها، وبعض المتصوفة ألفوا رسائل في حل الأوتار والمزامير وغيرها من آلات اللهو وأتوا فيها بكذب عجيب على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه رضي الله تعالى عنهم والتابعين والعلماء العاملين وقلدهم في ذلك من لعب به الشيطان وهوى به الهوى إلى هوة الحرمان فهو عن الحق عزل وبينه وبين حقيقة التصوف ألف ألف منزل، وإذا تحقق لديك قول بعض الكبار بحل شيء من ذلك فلا تغتر به لأنه مخالف لما عليه أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم من الأكابر المؤيد بالأدلة القوية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك ما عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن رزق عقلًا مستقيمًا وقلبًا من الأهواء الفاسدة سليمًا لا يشك في أن ذلك ليس من الدين وأنه بعيد راحل عن مقاصد شريعة سيد المرسلين صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه أجمعين؛ واستدل بعض أهل الإباحة على حل الشبابة بما أخرجه ابن حبان في صحيحه عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سمع صوت زمارة راع فجعل إصبعيه في أذنيه وعدل عن الطريق وجعل يقول: يا نافع أتسمع فأقول: نعم فلما قلت: لارجع إلى الطريق ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، وأخرجه ابن أبي الدنيا.والبيهقي عن نافع أيضًا، وسئل عنه الحافظ محمد بن نصر السلامي فقال: إنه حديث صحيح، ووجه الاستدلال به أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر ابن عمر وكان عمره إذ ذاك كما قال الحافظ المذكور سبع عشرة سنة بسد أذنيه ولا نهي الفاعل فلو كان ذلك حرامًا لأمر ونهى عليه الصلاة والسلام، وسد أذنيه صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون لكونه عليه الصلاة والسلام إذ ذاك في حال ذكر أو فكر وكان السماع يشغله عليه الصلاة والسلام والتحية ويحتمل أن يكون إنما فعله صلى الله عليه وسلم تنزيها؛ وقال الأذرعي: بهذا الحديث استدل أصحابنا على تحريم المزامير وعليه بنوا التحريم في الشبابة اه.والحق عندي أنه ليس نصًا في حرمتها لأن سد الأذنين عند السماع من باب فعله صلى الله عليه وسلم وليس مما وضح فيه أمر الجبلة ولا ثبت تخصيصه به عليه الصلاة والسلام ولا مما وضح أنه بيان لنص علم جهته من الوجوب والندب والإباحة فإن كان مما علمت صفته فلا يحلو من أن تكون الوجوب أو الندب أو الإباحة لا جائز أن تكون الوجوب المستلزم لحرمة سماع اليراع إذ لا قائل بأنه يجب على أحد سد الاذنين عند سماع محرم إذ يأمن الاثم بعد القصد فقد قالوا: إن الحرام الاستماع لا مجرد السماع بلا قصد، وفي الزواجر الممنوع هو الاستماع لا السماع لا عن قصد اتفاقًا، ومن ثم صرح أصحابنا يعني الشافعية أن من بجواره آلات محرمة ولا يمكنه إزالتها لا يلزمه النقلة ولا يأتم بسماعها لا عن قصد واصغاء اه، والظاهر أن الأمر كذلك عند سائر الأئمة، نعم لهم تفصيل في القعود في مكان فيه نحو ذلك، قالفي تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار: دعى إلى وليمة وثمة لعب وغناء قعد وأكل ولو على المائدة لا ينبغي أن يقعد بل يخرج معرضًا لقوله تعالى: {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين} [الأنعام: 68] فإن قدر على المنع فعل وإلا يقدر صبر ان لم يكن ممن يقتدي به فإن كان مقتدى به ولم يقدر على المنع خرج ولا يقعد لأن فيه شين الدين، والمحكى عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه كان قبل أن يصير مقتدى به، وإن علم أولًا لا يحضر أصلًا سواء كان ممن يقتدي به أولًا اه فتعين كونها الندب أو الإباحة وكلا الأمرين لا يستلزمان الحرمة فيحتمل أن يكون ذلك حرامًا أو مكروها يندب سدًا لاذنين عند سماعه احتياطًا من أن يدعو إلى الاستماع المحرم أو المكروه، وإن كان مما لم تعلم صفته فقد قالوا فيما كان كذلك: المذاهب فيه بالنسبة إلى الأمة خمسة الوجوب والندب والإباحة والوقف والتفصيل وهو أنه إن ظهر قصد القربة فالندب وإلا فالإباحة ويعلم مما ذكرنا الحال على كل مذهب والذي يغلب على الظن أن ما أشار إليه الخبر ان كان الزمر بزمارة الزاعي على وجه التأنق وإجراء النغمات التي تحرك الشهوات كما يفعله من جعل ذلك صنعته اليوم فاستماعه حرام وسد الاذنين المشار إليه فيه لعله كان منه عليه الصلاة والسلام تعليمًا للأمة أحد طرق الاحتياط المعلوم حاله لئلا يجرهم ذلك إلى الاستماع وإلا فالاستماع لمكان العصمة مما لا يتصور في حقه صلى الله عليه وسلم، ومن عرف قدر الصحابة واطلع على سبيلهم وحرصهم على التأسي به عليه الصلاة والسلام لم يشك في أن ابن عمر رضي الله تعالى عنه سد أذنيه أيضًا تأسيًا ويكون حينئذ قوله عليه الصلاة والسلام الذي يشير إليه الخبر له رضي الله تعالى عنه أتسمع على معنى تسمع أتسمع وإنما أسقط تسمع لدلالة الحال عليه إذ من سد أذنيه لا يسمع، وإنما أذن له صلى الله عليه وسلم بذلك لموضع الحاجة وهذا أقرب من احتمال كون سد الأذنين منه صلى الله عليه وسلم لأنه كان في حال ذكر أو فكر وكان يشغله صلى الله عليه وسلم عند السماع.وأما عدم نهيه عليه الصلاة والسلام من كان يزمر عن الزمر والإنكار عليه فلا يسلم دلالته على الجواز فإنه يجوز أن يكون الصوت جاء بعيد وبين الزامر وبينه عليه الصلاة والسلام ما يمنع من الوصول إليه أو لم يعرف عينه صلى الله عليه وسلم لأن الصوت قد جاء من وراء حجاب ولا تتحقق القدرة معه على الإنكار، ويجوز أيضًا أن يكون التحريم معلومًا من قبل وعلم من النبي صلى الله عليه وسلم الإصرار عليه وأن يكون قد علم إصرار ذلك الفاعل على فعله فيكون ذلك كاختلاف أهل الذمة إلى كنائسهم، وفي مثل ذلك لا يدل السكوت وعدم الإنكار على الجواز إجماعًا، ومن قال بأن الكافر غير مكلف بالفروع قال: يجوز أن يكون ذلك الزامر كافرًا وأن السكوت في حقه ليس دليل الجواز وان كان الزمر بها لا على وجه التأنق وإجراء النغمات التي تحرك الشهوات فلا بعد في أن يقال بالجواز والإباحة فعلا واستماعًا، وسد الأذنين عليه لغاية التنزع اللائق به عليه الصلاة والسلام، وقول الأذرعي في الجواب أن قوله في الخبر زمارة راع لا يعين إنها الشبابة فإن الرعاة يضربون بالشعيبية وغيرها يوهم أن ما يسمى شعيبية مباح مفروغ منه وفيه نظر فإنها عبارة عن عدة قصبات صغار ولها اطراب بحسب حذق متعاطيها فهي شبابة أو مزمار لا محالة، وفي إباحة ذلك كلام، وبعد هذا كله نقول: إن الخبر المذكور رواه أبو داود وقال: إنه منكر وعليه لا حجة فيه للطرفين وكفى الله تعالى المؤمنين القتال، ثم إنك إذا ابتليت بشيء من ذلك فإياك ثم إياك أن تعتقد أن فعله أو استماعه قربة كما يعتقد ذلك من لا خلاق له من المتصوفة فلو كان الأمر كما زعموا لما أهمل الأنبياء أن يفعلوه ويأمروا اتباعهم به، ولم ينقل ذلك عن أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا أشار إليه كتاب من الكتب المنزلة من السماء، وقد قال الله تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ولو كان استعمال الملاهي المطربات أو استماعها من الدين ومما يقرب إلى حضرة رب العالمين لنبيه صلى الله عليه وسلم وأوضحه كمال الإيضاح لأمته، وقد قال عليه الصلاة والسلام «والذي نفسي بيده ما تركت شيئًا يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا أمرتكم به وما تركت شيئًا يقربكم من النار ويباعدكم عن الجنة إلا نهيتكم عنه» وما ذكر داخل في الشق الثاني كما لا يخفى على من له قلب سليم وعقل مستقيم فتأمل وأنصف وإياك من الاعتراض قبل أن تراجه تعرف، ولنا عودة إن شاء الله تعالى للكلام في هذا المطلب يشر الله تعالى ذلك لنا بحرمة حبيبه الأعظم صلى الله عليه وسلم.واستدل بعضهم بالآية على القول بأن لهو الحديث الكتب التي اشتراها النضر بن الحرث على حرمة مطالعة كتب تواريخ الفرس القديمة وسماع ما فيها وقراءته، وفيه بحث، ولا يخفى أن فيها من الكذب ما فيها فالاشتغال بها لغير غرض ديني خوض في الباطل، وعده ابن نجيم في رسالته في بيان المعاصي من الصغائر ومثل له بذكر تنعم الملوك والأغنياء فافهم هذا، ومن الغريب البعيد وفيه جعل الاشتراء عنى البيع ما ذهب إليه صاحب التحرير قال: يظهر لي أنه أراد سبحانه بلهو الحديث ما كانوا يظهرونه من الأحاديث في تقوية دينهم والأمر بالدوام عليه وتغيير صفة الرسول عليه الصلاة والسلام وأن التوراة تدل على أنه من ولد اسحق عليه السلام يقصدون صد أتباعهم عن الإيمان وأطلق اسم الاشتراء لكونهم يأخذون على ذلك الرشاو الجعائل من ملوكهم، وقال: يؤيده قوله تعالى: {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله} وهو كما ترى، والمراد بسبيله تعالى دينه عز وجل أو قراءة كتابه سبحانه أو ما يعمهما، واللام في {لِيُضِلَّ} للتعليل.وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو {لِيُضِلَّ} بفتح الياء، والمراد ليثبت على ضلاله ويزيد فيه فإن المخبر عنه ضال قبل: واللام للعاقبة وكونها على أصلها كما قيل بعيد، وجوز الزمخشري أن يكون قد وضع {لِيُضِلَّ} على هذه القراءة موضع ليضل من قبل أن من أضل كان ضالًا لا محالة فدل بالرديف وهو الضلال على المردوف وهو الاضلال، ووجه الدلالة أنه أريد بالضلال الضلال المضاعف في شأن من جانب سبيل الله تعالى وتركه رأسًا وهذا الضلال لا ينفك عن الإضلال وبالعكس، وبه يندفع نظر صاحب الفرائد بأن الضلال لا يلزمه الاضلال، وفيه توافق القراءتين وبقاء اللام على حقيقتها، وهي على الوجهين متعلقة بقوله سبحانه: {يشتري} وقوله عز وجل: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} يجوز أن يكون متعلقًا به أيضًا أي يشتري ذلك بغير علم بحال ما يشتريه أو بالتجارة حيث استبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق، ويجوز أن يكون متعلقًا بيضل أي ليضل عن سبيله تعالى جاهلًا أنها سبيله عز وجل أو جاهلًا أنه يضل أو جاهلًا الحق {وَيَتَّخِذَهَا} بالنصب عطفًا على {يُضِلَّ} والضمير للسبيل فإنه ما يذكر ويؤنث، وجوز أن يكون للآيات، وقيل: يجوز أن يكون للأحاديث لأن الحديث اسم جنس عنى الأحاديث وهو كما ترى {هُزُوًا} أي مهزوأ به. وقرأ جمع من السبعة {يتخذها} بالرفع عطفًا على {مَن يَشْتَرِى} وجوز أن يكون على إضمار هو {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} لما اتصفوا به من اهانتهم الحق بايثار الباطل عليه وترغيب الناس فيه والجزاء من جنس العمل، و{أولئك} إشارة إلى {مِنْ} وما فيه من معنى البعد للإشارة إلى بعد المنزلة في الشرارة، والجمع في اسم الإشارة والضمير باعتبار معناها كما أن الإفراد في الفعلين باعتبار لفظها، وكذا في قوله تعالى:
|